المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : القرار



ابراهيم عوض
2009-06-05, 23:34
القرار‏



بقلم ابراهيم عوض الله الفقيه*


مرت دقائق وأنا جالس وحدي، الروتين يغلف ذاكرتي بسبائك فولاذية، والوقت يمر ببطء ويغرس كل آهات العالم في صدري، المكالمة الهاتفية التي تلقيتها وأنا في عملي ما زالت تدق في ذاكرتي "لقد عاد أخوك مع وليد من تونس".
الكلمات لا زالت تدوي في أعماقي بشعور وأحاسيس لا توصف..
في الطريق إلى البيت كنت عائداً أتمشى وحيداً، شعرتُ بوحدة قاتلة.. هؤلاء الناس لا أعرفهم، الناس كثر في كل مكان، ومع ذلك شعرت بذلك الانقباض الذي يشدني من الداخل، فأسرعت إلى البيت لأريل كآبتي بلقاء أخي وصديقي وليد بعد غيابهما الطويل، لكني لم أجد أحداً، فانزويت في غرفتي أدخن.
حين يكتشف المرء كم هو وحيد في عالمه الحزين المحزن، يصرخ في أعماقه ومن أعماقه، يريد أن يخاطب الحجر، كنت أرغب في مخاطبة الجدران، هذا المكان فارغ مثلي، وحيد مثل عالمي.
حل المساء وخيّم الظلام، ومع ذلك لم أشعل النور في البيت، ضاعف الفراغ والظلام من وحدتي، شعرت أني مشبّع بالرغبة في الكتابة عن المعاناة، وطائر الرحيل الذي حلّق في الأجواء من بيروت إلى تونس.
هذا المساء مشبّع أنا بالرغبة في الكتابة عن الارتحال والغربة والقهر، وعن الأمل الضائع في سراب العيون المقهورة.
جدران الغرفة الباردة كانت مثل زنزانة انفرادية، وشعرت بعجزي عن المناداة بعدالة القضية الفلسطينية، وانسراب الزمن هدراً بعيداً عن عالم السلاح.
لماذا لا يُسرع أخي بعودته لينقذني مما أنا فيه!.
لماذا لا يأتي أحد الزملاء ليجلس معي ويزيل عني وحدتي!.
هل سأبقى جالساً وحدي، أدخن وأشرب القهوة وحدي!.
قمت ووقفت قرب النافذة أرقب المارة، شاهدت أخي ووليد يقتربان، راقبتهما يمران عبر أضواء الزقاق الخافتة، كانا ضائعين، وخلت أنهما يتخبطان بالجدران.. وفي البيت كانت كآبة الحزن واضحة على وجهيهما، وهما يحدثاني عن رحلة الموت من بيروت ومدى شوقهما إلى الوطن.
كان أخي حائراً، ووليد فاقد السيطرة على نفسه، والدموع مثل حبات رمل تقف في عيونهما وتحجب عنها الرؤية، ومع ذلك حاولا كتم أسرارهما، سألني أخي عن عائلته، ولما لم أحر جواباً ، فضحته دموعه وقال:
"لا أدري لماذا تركت بيروت، لماذا تركت أبنائي في برج البراجنة.. حملونا بالسفن، وعبأونا بالوعود المطاطة، وعدونا بالسلام، ولم نكن ندري أن سلامهم مشبّع بالدمار، ويعني فناءنا".
فجأة صمت أخي، كان صمته عميقاً وحارقاً.
كانت فكرة الموت هي المسيطرة، كانت واضحة في نبراته اليائسة، ولم يعد للأمل موقع في داخله.. كنت واثقاً من أخي ورفيقه وليد بأنهما سيعودان إلى بيروت بأية وسيلة للالتحاق بموكب الشهداء، يقودان عربة الموت إلى طاحونة الفناء، ومع ذلك تركته يستريح تلك الليلة.
استلقى على فراشه وراح يتأمل السقف، راقبته وهو يحاول إخفاء دموعه التي فضحته من حيث لا يدري.
كان يتقلب في فراشه، يحاول أن يتحدث معي فيصمت، يحاول أن يمد يده إلى وليد ليحول الصمت إلى حركة، فيعجز، الحصار امتد وتطاول من بيروت إلى تونس إلى العراق.
هذه الليلة رأيت وجوه المحاصرين في ملامح أخي.. رأيت عيون الأطفال مشبعة بالقهر بعد الجوع.. كان أخي غاضباً، كانت تكشيرة كبيرة تملأ وجهه الذي ما كان في يوم من الأيام إلا باسماً، كان الحزن يحتقن تحت جلده مثل دمعة في عيني سجين.
قلت له "أليْس من ألم المخاض يأتي العطاء".
كان حزيناً وغاضباً في آن، يتألم ، يعاني ويتلوى كما لو أن خنجراً قد أغمد في صدره حتى النهاية، يفكر في الذين يتعرضون للمجزرة الجديدة، يتوهجون في نبض عروقه، وينغلون مثل كريات الدم في الأوردة، يتذكر الحصار الذي عاناه في بيروت، ويعيد في ذاكرته لحن المجزرة الحزين.
كان مقهوراً، يتذكر الأصدقاء واحداً واحداً، من منهم لا زال يحمل السلاح ومن منهم استشهد، تجرفه رغبة حارة في البكاء، لكنه يمنع نفسه، يجاهد لكيلا ينبجس دمعه.
أعرف يا أخي أنك كنت تود بكل نبضة في عروقك، لو كنت الآن بين المقاتلين، ستموت معهم واقفاً كالأشجار، "حدثت نفسي"، ستصمد، ستصنع معهم سداً، وإذا كان لا بد من الموت فليكن ذلك معهم، بينهم، فيهم، أليس هذا التصرف قمة اليأس يا أخي!.
يقولون أنك فكرت تحت تأثير الانفعال بالتخلي عن انتمائك العربي، لكني كنت أعرف تماماً أن العروبة هي الهواء الذي تتنفسه، والنبضات التي تخفق في فؤادك، لقد ذبحوك يا أخي، علقوك في الكلاليب، وأخذوا يسلخون جلدك، وبعد ذلك فصلوا لحمك عن عظمك، ثم انتزعوا فروة رأسك، ورغم ذلك كله لم تمت.
كم أنت خارق يا أخي، وظل الكبرياء جزءاً من أنفاسك وصمودك، فقد رأيتك هذا اليوم تناور وتتعذب، وتتمنى لو كنت بينهم لتصنع معهم سداً، وتموت معهم، بينهم وفيهم.
كان يفكر كيف يجتاز المرحلة، كيف يصمد قبل أن يُقتلع ثانية من خيمته الجديدة، يشعر أنه مسؤول عن أمانة كبيرة حمّله إياها الشهداء والأرامل والأيتام والشباب وأبناء جلدته، إنه مسؤول، وعليه أن يجد الحل من خلال الحصار والذبح والموت والتصفية التي يتعرض لها أبناء شعبه الصامد.
ارتسمت على وجهه تقطيبة كبيرة، وشعرت أنه وجد الحل... "لا يأس، ولا تفريط بالقضية"، عليه أن يستمر في النضال حتى يكون النضال نقياً وعادلاً، عليه أن يناضل حتى يوقف مسيرة الهزائم نحو الارتحال والفناء، أن يناضل من أجل برنامج عمل علمي يناسب المرحلة الجديدة.
عند ذلك أشرقت ملامح أخي، شعر أنه وجد شيئاً، شعر أن لديه حلاً، وأن هناك ما يمكن أن يطرحه.. وفي الحال قام من فراشه، شعر أنه يجب أن يظل ممتلئاً باليقظة، تأمل الغرفة الفارغة، وراح في ذاكرته يعيد ترتيب أوراقه المبعثرة.
* كاتب – قاص وروائي أردني.

يادرب ماأصعبك
2009-06-05, 23:48
اخوي مش عارف اشكرك ازاي على هذا النص الجميل
المكتوب بدقة وتمعن ابدعت اخي ادعوك الى الاستمرار
دام لنا قلمك الرائع
ودمت سالما للمنتدى وللوطن

ابوعبدالله
2009-06-05, 23:59
ليس غريبا على القلم الثائر
قلم الكاتب ابراهيم عبد الله عوض ان يبدع ويصيب
فهو من كتب ام الشهيد وخط دمعها كصرخة دوت لمن به حياة
وهو من ثار رغم لفحة البرد القارص وبرغم اشتداد الظلمة في عينيه
الا انه عرف المهمه - ان يتمكن منهم لا ان يتقيهم ويحيى ذلا وهوان-
هو من ناصر الرفاق في كل زقاق وثار مع الثائرين وكان الاخ الكبير للاخوة من اجل تحديد المصير
وها انت ايها المبدع قد اتخذت القرار رغم علمي انه قرارك مذ ولدت حرا ...لكنك اليوم تؤازره وتحميه

فلسطينيه
2009-06-06, 20:13
يسلموووووووو

ننتظر الابداع منك دوماااااااا

زعيم البلد
2009-06-06, 21:37
شكرا لك وننتظر منك المزيد
تقبل مروري
زعيم البلد

روبينا
2009-06-12, 01:08
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

يسلمووو على الموضوع

همـسه
2010-03-22, 23:55
يسلموو دياتك

دمت بود ومحبة

a7la noora
2010-04-25, 21:50
عنجد حلووووه

مشكور
لا تحرمنا من جديدك..
تحياااتي
a7la noora

ابوالنور
2010-05-29, 17:21
رائع كروعة حضورك
ننتظر جديدك
دمت بود
يسلموووو