المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الحمام لايطير في بريده



ابن الشمال
2010-04-12, 19:22
الحمام لايطير في بريده
حين تحرك القطار غروب ذاك اليوم المعتدل من أيام تموز لعام 2007م، من محطة ليفربول في لندن متجهاً شمالاً صوب مدينة غريت يارموث الساحلية، شعر فهد السفيلاوي بسعادة وقد منح نفسه إجازة يومين من عمل مضنٍ في مكتب خدمات الطباعة والبحوث، كي يتجول في شوارع لندن وحدائقها. اتخذ فندقاً متواضعاً سكناً له، في منطقة كوينزواي قرب حديقة الهايد بارك. ارتاد مطعماً لبنانياً صغيراً، تذوق فيه طعم الأرز الأبيض بعد انقطاع طويل. ومطعماً إيرانياً متواضعاً تنتشر كراسي الخيزران عند مدخله، وتنساب خراطيم الشيشة كأفاعٍ بين الكراسي. واكتشف حانة صغيرة تدعى "الأسد السعيد" ذات طابع فيكتوري رائع. كما صرف وقته بالتجوال بين شارع أكسفورد وساحة ترافالغر، والجلوس في حانات جديدة ومقاهٍ على النهر، قرب جسر لندن الشهير.
اختار مقعداً عند طاولة في القطار، ووضع عليها حقيبة الظهر التي أصبحت جزءاً من جسده، ثم سحب من جيبها الجانبي قارورة ماء، وعلبة إكسترا بنادول كان قد ابتاعها من صيدلية في إجوار رود، دفع قرصاً في أقصى بلعومه وأتبعه بجرعة ماء، ثم فعل ذلك ثانية. تناول من قاع الحقيبة رواية "القُبلة المرسومة" لإليزابيث هايكي، التي تتناول علاقة غوستاف كليمت بمعشوقته الصغيرة إيميلي التي لفظ اسمها وهو يحتضر، حيث تستعيد المعشوقة الصغيرة، بعدما شاخت، حياتها مذ كانت تلميذة في الثانية عشرة، تتعلم الرسم على يد أستاذها المحروم، وحتى نقلها للوحاته من العاصمة فيينا إلى الريف النمساوي. كم تذكِّره هذه الرواية بفيلم شاهده قبل سنة. اسمه "البنت ذات القرط اللؤلؤي"، مأخوذ من رواية تحمل الاسم ذاته، ويتناول حياة الهولندي جوهانز فيرمير، الذي رسم لوحة بنفس الاسم، فثمة تقاطع ممتع بين الروايتين الرائعتين. أسند رأسه قليلاً على زجاج النافذة البارد، متتبعاً قطيع الكلمات، وما كاد يفعل حتى غفا لعشر دقائق أو أقل، كان القطار قد تحرك خلالها. أفاق فجأة، فوجد أمامه عجوزاً إنجليزية جلست في المقعد المقابل له تبتسم تجاهه، وتتصفح مجلة ديكور منزلي باهتمام بالغ. لم يقاطعها سوى استيقاظه مفزوعاً. ثم راح يتأمل الطبيعة الخضراء، وبيوت القرميد والبقر والخراف، وهي تمرّ أمامه مثل شريط سينمائي سريع.
تذكر صديقه الحميم سعيد، الذي اتصل به، ليطمئن عليه، ثلاث مرات خلال ما يقارب أحد عشر شهراً قضاها في بريطانيا، ففكر في الرد على مكالماته تلك، وعلى وفائه النادر، بأن يباغته يوماً بمكالمة من بلاد الفرنجة، كما يسميها دائماً. بحث عن جواله في جيب الجينز، فلم يجده، فتح حقيبته فعثر عليه أخيراً، لا توجد أسماء كثيرة في دفتر التلفون، العم هانك، والشابة الفرنسية ليندا وزميلة مدرسة اللغة، الفتاة المكسيكية سنتيا، والمحاسب الشاب نيل الذي يشرف على مكتب خدمات الطباعة والبحوث، إضافة إلى سعيد، صديق الطفولة والشباب المتهتك والمجنون، في الرياض.
حين ضرب الرقم، ووضع السماعة في أذنه لم يأت صوت الرنين المعتاد، بل كان صوت أغنية فتكت بقلبه الضعيف، أغنية دمرت كل ما فعله خلال عام، كي يخرج من مأساته العجيبة، مسحت كل العالم الذي تآلف معه، ورمت بكل جبروت مدينته الصغيرة "غريت يارموث" إلى زرقة البحر، كأنما دفعت هذه الأغنية المباغتة بتلك المدينة المسالمة، ببناياتها العتيقة وكنائسها وحاناتها وكورنيشها الرملي الأبيض، بمدينة الألعاب فيها وناسها الطيبين، دفعت بكل ذلك إلى بحر الشمال، كأنما فجأة غرقت المدينة الآمنة الصغيرة بأكملها، تماماً كما أغرقها البحر بطوفانه مطلع عام 1953م، غامراً البيوت الآمنة وأهلها النائمين، أو كأنما جندياً ألمانياً نازياً أشعل المدينة بقذائفه من البوارج الحربية الطاحنة.
لم يقفل فهد الخط، ولم يتمنَ أن يرد سعيد على مكالمته، كي تكتمل الأغنية الحزينة:
"تقوى الهجر، وش لي بقى عندك تدور لي عذر...
لا تعتذر.
تقوى الهجر... ما نجبره من عافنا ما ينجبر... لا تعتذر.
راح الصبر، لا تعنّى لي وتمر، وتبغى الصبر،
وين الصبر؟
جرحي عميق والقلب في دمه غريق،
وتبغى الصبر؟! ويلاه من وين الصبر؟!
مهما تقول لا تعتذر"
ما أقسى أن يصحو الغريب على لغته! أن تغسل لهجته عروقه، وأن يهجم الماضي كوحوش الغاب صوب طريدة عزلاء وهشة هي الغربة، حيث لا تطير المدينة فحسب، بل حتى اللغة والناس والطمأنينة، والذكريات والأغنيات، فطارت بغتةً سيلين ديون وحطَّ مكانها خالد عبدالرحمن، طار صوتها الرائع، وكلماتها التي أعادت الحياة إلى قلبه: "عندما تهاتفني، عندما أسمعك تتنفَّس، أنال جناحين لأطير، أشعر بأنني حي" حتى الطفل الذي يشبهه في الفيديو كليب، ذاك الطفل الذي يتحكم عن بعد بطائرة صغيرة، طار قسراً وحلَّ مكانه طفل آخر، طفل حزين، مسلوب تماماً، ولا يملك أن يطيِّر مجرد ريشة.
شعر فهد بحنين مفرط يضغط على رقبته ويستدرّ مآقي عينيه. وتملكه، في الوقت ذاته، خوف ورعب من رجال سمان ذوي لحى طويلة سوداء، يراهم دائماً في الليل وهم يأتون برماح مسنونة يخزون بها وسادته ويثقبونها، فينبثق ريش أبيض يطير حتى يسد أنفاسه فيصحو وجلاً كأنه أصيب باختناق.
وضع الجوال على طاولة عربة القطار، وأحاط رأسه بكلتا يديه، مسنداً مرفقيه على الطاولة، وأجهش بالبكاء. جسده الضئيل يرتجف بهستيريا غريبة، مما أرعب العجوز الانجليزية أمامه، وجعلها تندفع تجاهه وهي تلمس ذراعه برقةٍ وتردّد، وهي تسأله: هل أنت بخير؟ قال لها: نعم، أنا بخير، وقد خجل من نفسه، فهرب بعينين دامعتين صوب النافذة

همـسه
2010-04-12, 20:34
قصة رائعة

مشكور محمود

دمت بكل ود ومحبة

ميسا
2010-04-13, 11:38
مشكووورمحمود

قصه جميله


يعطيك العااافيه

بسمة امل
2010-04-13, 13:46
قصة رائعة وجميلة
مشكوررررر محمود ويعطيك العافية
دمت برعاية الله

هانى
2010-04-13, 19:56
قصة رائعة

مشكور محمود

دمت بكل ود ومحبة

قناديل العنب
2010-04-13, 20:10
مشكور محمود

على القصه

بارك الله فيك

عاشقة السهر
2010-04-16, 10:14
مشكور محمود ع القصه الرائعه
ويسلمو ايدك

يادرب ماأصعبك
2010-04-16, 10:23
مشكور اخوي محمود نعيرات على القصة الجميلة
نتظر الاجمل منك والى الامام