عند النظر من نافذة أي مقهى يطل عالياً من رام الله، ستجد صورة واحدة، وهي صورة إحدى المستوطنات الإسرائيلية في نصفها الأعلى، ومن نصفها الأسفل البيوت والمآذن والمباني الفلسطينية. في طبيعتها وبنيتها المادية لا تختلف الأرض عن الأرض، لا تختلف فيما تحمل من تربة وأشجار ولا تختلف فيما تحمل من مواد بناء. ربما لا تختلف إلا بالشكل الهندسي للبناء.
ولو أحضرنا شخصاً ما من أي مكان من الأرض، دون أن يعلم طبيعة الصراع الدائر في هذه الأرض، لما خطر له مطلقاً، أن النصفَ الأعلى من الصورة يضطهد الأسفل منها، والأسفل يكره الأعلى، ويُصر على أنه في أحد الأيام سيستطيع النيل منه وقتله.
في إحدى الليالي، وفي طريقي من رام الله إلى أريحا، توقفنا بالسيارة أنا وصديق لي، وقد أخذنا جمال المكان وجاذبيته، إذ كنا في منتصف سهل ممتد من تلة تقطعها الطريق. كان الهواء الذي يُسرع من أعلى التلة إلى سهلها، يضرب الحشائش التي نبتت على السهل، ويجعلها تتماوج بصيغة أنثى تراقص الطبيعة.
وقفنا خمسَ دقائق، ونظرت إلى صديقي لأسأله: أعطني سبباً واحداً يجعل هذه الأرض تستيقظ صباحاً لتقتل أبناءها؟ لتنتهك حرمة الطبيعة الخلابة هذه؟ وصمَت هو، وصمتُ أنا. قلت: دعكَ من رومانسيتك، فهي لا تنفع سوى في هذه الليلة.
في الصباح، كان خبر استشهاد ثلاثة فلسطينيين في جنين. قلتُ لنفسي: قلت لك، ستقتل هذه الأرض أبناءها في الصباح.
ولكن لم تكن الأرض القاتل، إن الأرض لا تقتل، بل المسدس والبندقية. وكان القاتل الجيش الإسرائيلي.
لن أعود للتاريخ، ولن أعود لأي جدلية تذكر هنا. وهذه المقالة، لم تأت لتدين طرفاً من الأطراف. سأقوم بافتراض ما، وسأسرد ما تبقى من المقالة بناءً على هذا الإفتراض.
إن الإفتراض يقول، لو استيقظ أبناء هذه الأرض يوماً، وتجردوا من كل أسباب الصراع، هل سيتجه جندي إسرائيلي إلى الحاجز ليقوم بإذلال نساءً فلسطينيات؟ هل سيتجه جندي إسرائيلي إلى طائرته ليقصف غزة؟ وهل سيتجه مقاوم فلسطيني إلى موقع إطلاق الصواريخ ليطلق صاروخاً؟ هل سيكره الفلسطيني من يسكن على الجهة الأخرى ويسميه صهيونياً؟ وهل سيكره الإسرائيلي من يسكن على الجهة الأخرى ويسميه وحشاً يجب قتله؟
لا أعتقد ذلك، لو تجردنا من أسباب الصراع، سيقوم كل منا بإزالة أدوات الصراع وينتهي الأمر ببساطة.
سأقتبس من قصيدة رفيف زيادة وهي شاعرة فلسطينية تقيم في كندا، جملة من قصيدتها تقول ‘ نحن نعلِّم الحياة سيدي’، وهذه الجملة تقول: ‘ ألا تعتقدين آنسة زيادة أن كل شيء سيُحل لو توقفتم عن تعليم أبنائكم الكراهية؟’.
دار نقاش ما حول هذه القصيدة، وكان رأيي فيه، نعم نحن نكره الإسرائيليين. من لا يستطيع أن يكره من يقوم بإذلاله ورميه بالصواريخ؟ من الشخص الذي لن يقوم برمي الصواريخ لو استطاع، على من يقذفه بدبابة؟ ولكنَّنا لا نعلمهم الكراهية، الكراهية فعل إنساني في حالة التعرض للإضطهاد. ولكن أيضاً، نحنُ نعلم الحياة للعالم، كل شخص يستطيع أن يفعل ذلك. كل شخص ولأنه حي، هو شخص قادر على تعليم الحياة من خلال الحياة. ولكن، السؤال هنا، ما الذي يجعل الفلسطينيين والإسرائيليين في صراع، إذا كانوا في حالة التجرد من أسباب الصراع فلن يستمروا في هذا الصراع؟
هل حقاً هناك أسباب للصراع؟ وإذا كانت هذه الأسباب حقيقية وهي بالفعل كذلك بالنسبة للكثيرين، وإذا كانت هذه الأسباب هي تتعلق بمسألة وجودية للطرفين. ما الذي يجعل الصورة التي تحدثت عنها في بداية المقال، ما الذي يجعلها قائمة؟ أقصد لمَ لم ينتهِ أحد أطرافها حتى الآن؟
السؤال هو، إذا كان الصراع هو صراع وجود، ما الذي حتى اللحظة يبقي كل من الفلسطينيين والإسرائيليين في حالة صراع متقطع، نصف حروب متقطعة. وما الذي يجعلهم قادرين على العيش في أرض واحدة، أحدهم يطل من نافذته على مستوطنة، وأحدهم يطل من نافذته على قرية فلسطينية؟
لو كان الصراع هو صراع وجود، إذن، لم ليس صراعاً مستمراً في كل ثانية على هذه الأرض؟
دعونا نفكك الأمر ببساطة، إن كافة أسباب الصراع التي نمتلكها حتى اللحظة، وهي التاريخ والدين والوطنية ( وهي أشياء مشتركة لدى طرفي الصراع)، ليست قوية كفاية لتجعلنا في حالة صراع مستمر في كل لحظة من حياتنا على هذه الأرض؟ ليس فقط كذلك، بل هي ليست قوية كفاية لتجعلنا، نترك كل ما نبني فيها، كل تعليمنا، كل سعينا نحو مستقبل أفضل لأبنائنا، وكل الأمور التي نفعلها، تلك الأسباب ليست قوية كفاية لتجعلنا نترك كل هذه الأمور التي نفعلها يومياً، ونتجه إلى مستوطنة ما، أو قرية فلسطينية ما، ونبدأ صراعاً لأنني أرى في الطرف الآخر( سواء فلسطيني أو إسرائيلي ) هوعدو حقيقي لي.
هل نحن فقط نكره الإسرائيليين؟ وهل الإسرائيليين فقط يكرهون الفلسطينيين؟
حسناً، ربما تكون هناك بعض الإجابات على ما ذكرته في الفقرة السابقة. وسأكون هنا أكثر مباشرة وتخصيصاً. إذا كان الجندي الإسرائيلي يملك كافة أسباب الصراع الوجودي الحقيقية بالنسبة له، ما الذي يجعل ذلك الجندي، لا يطلق الرصاص وفقط الرصاص على من يمرون من أمامه على الحاجز؟ ألا يستغرب الفلسطينيون هذا الأمر؟ والجندي؟
إذن نحن نملك القدرة على العيش دون صراع، وهذا الأمر هو أكثر الأمور التي حدثت على مر تاريخ قضية هذا الصراع، الأوقات التي لم يكن فيها الصراع مستمرا أكثر من الأوقات التي كان فيها صراع. إذن ماذا؟
ما الأمر الذي يدفعنا نحو الإصرار على الكراهية المشتركة؟ هناك العديد من الأمور التي قد نذكرها، وأهمها وبحكم منطق القوة، هو إبقاء إسرائيل على اضطهادها للفلسطينيين وكردة فعل طبيعية بشرية وحتى دون أي تدخل لأي معتقدات أو تاريخ، سيكره الفلسطينيون إسرائيل ويقومون بفعل مقاومة مشروعة. ولكن ليس هذا ما أتحدث عنه.
أتحدث عن الإفتراض. إن أي نهاية لهذا الصراع، ستكون إما الفناء الكامل لأحد الأطراف، أو العيش المشترك.
والسؤال هنا، ما الذي يمنع هذا العيش المشترك؟ ما الذي يجعل تقبل الآخر فكرة مستحيلة في نظر الطرفين؟ توقف! إنها كذبة، فهي ليست مستحيلة، لو كانت مستحيلة، لما تقبل الفلسطينيون ولو للحظة وجود المستوطنات ولقاموا يومياً بمهاجمتها، وتوقف! لو كانت مستحيلة، لما تقبل الإسرائيليون وجود الفلسطينيين في الأعياد في اسرائيل ووجودهم بجانب مستوطناتهم.
أليس الأمر غريبا؟
أدعي وجودية الصراع الذي يربطني بالآخر، وأقوم بتقبله عند مروري على الحاجز، وأقوم بتقبله عندما أخرج في أعيادي إلى إسرائيل، وأقوم بتقبله كونه يسكن بجانبي ولا أهاجمه، وأقوم بتقبله ألف مرة يومياً، وفي النهاية أدعي وجودية الصراع.
أنا لا أدعو للسلام الذي سيجعل أحد الأطراف يعيش على استغلال الطرف الآخر، وأيضا لا أدعو لإدانة أحد الأطراف، أنا فقط أقول، توقفوا للحظة، من إسرائيليين وفلسطينيين، نفترض، نفكر، هل هناك اي سبب للصراع وهل الصراع وجودي ومع ذلك ما زلت أنا هنا أقرأ هذا المقال ومن ثم سأقوم لأحضر التلفاز وأقوم بفعل واحد وفقط واحد، أكره الإسرائيلي، أو أكره الفلسطيني؟
ما الذي يجعل أمر الإجابة على هذا السؤال، أمرا ملحا.
هناك أمر واحد فقط يجعل الإجابة على هذا السؤال أمرا ملحا، هو أنّ غزة لن تكون يوماً ما مدانة حين تدافع عن نفسها في وجه الطائرات، وأيضاً، لن يكون هناك اي طفل إسرائيلي يوماً ما صهيونياً ويستحق قتله ولم يتجاوز بعد الرابعة من عمره.
وبالتالي، فإن الصورة التي ذكرتها في البداية، ستحرق نصفاً منها يوماً ما، وستكون النهاية كارثية. لماذا؟ لأننا لم نفعل يوماً واحداً أمراً واحداً، وهو أن نقف للحظة ونفكر: هل هذا الصراع وجودي وإذا كان كذلك، لمَ أمرُّ من على الحاجز دون أن أقتل الجندي ولمَ لا يقتلني الجندي فورَ رُؤيتي؟
الأمر بسيط أعزائي، هو أنّنا رهائن أوامر من فوق، من الحكومة أو أي جهة أخرى إلى الجندي: أقتل.. فيقتل. ربما يكون حقاً يفكر في هذا الأمر، في أمر القتل في كل ثانية، ولكنه لا يفعله وهذا هو الأمر الهام.
في النهاية، سأقوم باستحضار قضية واحدة، وقد تكون هي الإجابة على كافة أسئلتي لم يعارضني وغالباً، سيكون العديد هناك ممن يتهمونني بكثير من الأشياء والأوصاف.
وهي مسألة الدين، لدى الفلسطينيين والإسرائيليين. ولأنها تعدُّ إحدى أسباب الصراع. لو أصاب افتراضي في أحد الأيام، أي أن يستيقظ الفلسطينيون والإسرائيليون في أحد الأيام، متجردين من أسباب الصراع، وفقط، وينتهي كل شيء دون حتى التفكير في كيفية إنهائه. وأتى أحدٌ ما، وقال: لقد خيبت ظنَّ الرب.
أتمنى أن يجيب احد ما: بما ان الرب رحيم، فيحب رائحة السلام.